حول الحكمة وإحساس المراعاة

حول الحكمة وإحساس المراعاة

ربّما وُلدتُ امرأة، وربّما، كما تقول سيمون دي بيفوار،  أصبحت امرأة. سواء أكان هذا ما حصل أم ذاك، فإنّ كَوْني امرأة يشكّل مركّبًا مركزيًّا للغاية في الفسيفساء التي تَنْبَني منها هُويّتي الشخصيّة وهُويّتي الفرديّة. إنّها العدسة التي أتأمّل نفسي والعالم من خلالها.

الكتابة حول الهُويّة النسائيّة في عصر ما بعد الحداثة قد تكون “دَقّة قديمة”، أو عملًا انتهت صلاحيته، وبخاصّة بعد أن قامت جوديت باتلير بزعزعة عالَمنا بفكرتها القائلة إنّ الهُويّة الجندريّة هي ضرب من الإنشاء الاجتماعيّ، ونوع من التمظهر، أكثر من كونها أمرًا “طبيعيًّا”. حقًّا، هذا صحيح؛ ففي الخطابات النسويّة يبدو أنّ الانشغال بالهُويّة النسائيّة يقف على حافة منزلق أملس يُفضي صوب الماهِيَويّة (الجوهرانيّة)، وصوب إنشاءات اجتماعيّة، وتنميطات رجوليّة ونسائيّة نسعى نحن النساء للابتعاد عنها.

لكن في معمعان هذه المنزلقات الملساء، أتلمس لنفسي حقّ تعريف هُويّتي كامرأة في الفضاءات المختلفة التي أتحرّك وأعمل فيها.

هُويّتي كامرأة قِوامها شذرات من التاريخ النسائيّ المتواصل؛ سلالة متواصلة من الساحرات والحكواتيّات، والمزارِعات والمطبِّبات، والنساء الكاتبات والمفكِّرات، والطاهيات والمغنّيات، والنساء اللواتي يحملن القلم، نساء يُدْنين طفلًا نائمًا إلى حضنهنّ، وأخريات يحاربن ويكافحن في سبيل مستقبل أفضل. قِوامها كذلك جدّتاي المرحومتان، وأمّي (أطال الله عمرها)، وأخواتي بالولادة وأخواتي اللواتي أدنيتُهنّ إليّ عبْر السنين. تتغذّى هُويّتي وتنمو من اللقاء اليوميّ مع أحبّائي. وقِوام هُويّتي كذلك نساء لم ألتقِ بهنّ قَطّ، أو قابلتهنّ من على صفحات الكتب، وفي الصور والحكايات. قِوامها نساء من لحم ودم وأخريات من الأساطير.

وفي الأشهر الأخيرة تبيّن لي أنّ هُويّتي “ترضع” كذلك من نساء ليبيريا البطلات الباسلات.

قبل عامين، تعرّفت للمرّة الأولى على شريط مصوّر يوثّق نضال نساء ليبيريا المسلمات والمسيحيّات من أجل إحلال السلام ووقف الحرب الأهليّة الدمويّة في بلادهنّ.  فيلم   Pray the Devil Back to Hellيشكّل جزءًا من سلسلة أفلام وثائقيّة حول النساء كصانعات سلام في أرجاء العالم، في صراعات دمويّة ومرّة.

وفّر لي نشاطي في حركة “نساء يصنعن السلام” فرصةَ مشاهدة هذا الفيلم مرّة تلو المرّة في العروض التي تقيمها الحركة في أنحاء البلاد. أكتشف فيه مواطئ قدم جديدة وتنحفر هذه الجملة أو تلك في ذاكرتي، وتقضّ صورةٌ من الصور مضجعي. لكن في كلّ مرة أشاهده، يتعزّز إيماني بالروح الإنسانيّة التي تحمل معها قدرة هائلة على الرأفة، والحكمة الفائقة، والاصطبار النفسيّ حيال القسوة التي لا توصف.

بعد كلّ عرض للفيلم، نُجري نقاشًا ومحادثة مع الجمهور. كل ّمحادثة  تحمل خصوصيّة وتتباين عن غيرها، وفي كلّ مرّة تطفو على السطح أفكار  ومدركات جديدة.

عدت قبل عدّة أسابيع من عرض في الملجأ الصغير والدافئ التابع لمسرح “ماشو- ماشو” للتغيير الاجتماعيّ. كانت تلك ليلة مقدسيّة باردة، فوجدتُني والمشاعر تطغى عليّ أشرع بالكتابة عن المعرفة، النسائيّة منها.

وجدتُني ألهو بتفكيك وإعادة تركيب أمور متضادّة اعتدنا على تقبُّل “صحّتها”: الرجولة مقابل الأنوثة؛ العقل مقابل الوجدان؛ العقلانيّة مقابل الممارسة الاندفاعيّة؛ الحراك مقابل الحياد؛ القوّة الجسميّة مقابل الطراوة والنعومة. لهوت كما تعلّمت بشقّ الأنفس من جاك دريدا الذي كان يتناول أزواج كلمات ويفكّكها إلى حين تصبح هذه الكلمة تلك، وتصبح تلك هذه.

Header-Our-History-1200x460-cropped

غنّت نساء ليبيريا وبكَيْن، ورقصن وتعانقن  وصولًا إلى اتّفاقيّة السلام وتأسيس حكومة منتخَبة في انتخابات حرّة ونزيهة وديمقراطيّة. وقفن تحت الشمس الحارقة والأمطار الغزيرة، ولم يبرحن مواقعهنّ. عملن في صفوف الأولاد الجنود على نزع السلاح، وقمن بعمل مجتمعيّ وسياسيّ يشكّل مصدرَ إلهام للجميع. وفي اللحظات الحرجة، قمن بتوظيف الخوف من اللعنات…

كشفت نساء ليبيريا بحكمة ورباطة جأش عن بؤس القسوة، وعن حدود القوّة الجائرة والغاصبة والناهبة. فضحن الطمع والنهب والجشع والطمع وشهوة التسلّط التي اختبأت من وراء خطابات قادة الميليشيات المتصارعة. حاربن في سبيل إعادة الطفولة إلى أولاد وبنات ليبيريا، الطفولة التي حُرموا وحُرمن منها.

نساء ليبيريا وضّحن لي معرفة فائقة الأهمّيّة: المشاعر مَعْرفة. القدرة على التنازل والقبول بحلول وسط من أجل المصلحة العامّة هي ضرب من المَعْرفة. القدرة على وضع الاختلافات والفروق جانبًا هي ضرب من المَعْرفة. القدرة على قيادة مجتمعات محلّيّة جريحة وممزّقة ونازفة في طريق طويل ومتعرّج نحو الشفاء هي ضرب من المعرفة. قدرة العفو عمّن ارتكبوا جرائم فظيعة ضدّ الإنسانيّة هي تاج المَعْرفة. القدرة على توظيف المعتقَد الدينيّ لصالح إحلال السلام هي كذلك ضرب من المَعْرفة.

المعرفة قوّة. القوّة قد تكون ناعمة ومرنة واحتوائيّة ومدرِكة لحدودها، وقد تكون أمرًا نختار تَقاسُمَه، بغية تعزيزه.

على خطاب الأمن والحرب وإمكانيّة إحلال السلام أن يضمّ هذه المعرفة بين ثناياه. الأمن ليس حكرًا على الرجال أو المقاتلين. العكس هو الصحيح. جميعنا نملك معارف حول الأمن؛ وكذلك حول الأمن الشخصيّ، والبدنيّ، والاقتصاديّ، والجندريّ، والاجتماعيّ، والثقافيّ.

على الخطاب الذي يسعى لإحلال السلام أن يتضمّن جميع أنواع المعرفة المذكورة.

أشعر بالامتنان العميق لجميع النساء اللواتي علّمنني هذه الدروس.

وأدعوكم/نّ لمشاهدة الفيلم

رابط لموقع الفيلم: http://www.forkfilms.net/pray-the-devil-back-to-hell/

زوروا صفحة نساء يصنعن السلام على موقع فيسبوك، للاطّلاع على قائمة عروض الفيلم في أرجاء البلاد

 

%d בלוגרים אהבו את זה: